فصل: فصل (في اسْتِعْمَالِ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الصَّدَقَاتِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل [في اسْتِعْمَالِ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الصَّدَقَاتِ]:

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ تَطَوَّعُوا بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ جَازَ وَسَقَطَ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، كَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى: لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا وَيَسْقُطُ سَهْمُ الْعَامِلِينَ مِنْهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ سَهْمَ عَمَلِهِ مِنْهَا فَفِي جَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَا يُرَاعَى فِيهَا الْفُقَرَاءُ فَلَمْ يُرَاعَ فِيهَا النَّسَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَى عَمَلِهِمْ فِيهَا مَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ مِنْ أُجْرَةِ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ، جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَيْهِ بِمَا يَلْزَمُ فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، رُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَاهُ عِمَالَةَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ لَا يَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَهْمَهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ عِوَضًا عَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: إِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ سَهْمَهُمْ مِنَ الْخُمُسِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُعْطَوْنَ جَازَ: لِئَلَّا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالَيْنِ إِنْ أُعْطُوا، لَا يُحْرَمُوا الْمَالَيْنِ إِنْ مُنِعُوا، فَأَمَّا مَوْلَى ذَوِي الْقُرْبَى هل يعطى من الصدقة؟ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَذَوِي الْقُرْبَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ لِرِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَثْبِتْ لِي سَهْمًا مِنْهَا، فَقَالَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ، وَإِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ عَامِلًا عَلَيْهَا: لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى لِأَمْرَيْنِ تَفَرَّدُوا بِهِمَا عَنْ مَوَالِيهِمْ: أَحَدُهُمَا: شَرَفُ نَسَبِهِمُ الَّذِي فُضِّلُوا بِهِ. وَالثَّانِي: سَهْمُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي تَفَرَّدُوا بِهِ. فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصُّوا بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ دُونَ مَوَالِيهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فصل [في تلف الصدقة في يد العامل]:

إِذَا تَلَفَتِ الصَّدَقَةُ فِي يَدِ الْعَامِلِ فَهُوَ عَلَيْهَا أَمِينٌ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْعُدْوَانِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ: لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ أُجْرَةَ الْقَبْضِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيَلْزَمُهُ إِذَا تَلَفَتْ قَبْلَ التَّفْرِيقِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ أُجْرَةَ التَّفْرِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْمَالِ قَبْلَ تَلَفِهِ أُعْطِيَ أُجْرَةً مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ وَلَمْ يُفَوَّتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.مسألة [في بيان من هم المؤلفة قلوبهم]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فِي مُتَقَدِّمِ الْأَخْبَارِ ضَرْبَانِ: ضَرَبٌ مُسْلِمُونَ أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ يُجَاهِدُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْوَى الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِهِمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا كَانُوا هَكَذَا فَأَرَى أَنْ يُعْطَوْا مِنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مَا يُتَأَلَّفُونَ بِهِ سِوَى سِهَامِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا السَّهْمَ خَالِصًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّهُ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، (وَاحْتُجَّ) بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنَ الْخُمُسِ مِثْلَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَأَصْحَابِهِمَا وَلَمْ يُعْطِ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ وَكَانَ شَرِيفًا عَظِيمَ الْغَنَاءِ، حَتَّى اسْتَعْتَبَ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، (قَالَ الشَّافِعِيُّ)- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَمَّا أَرَادَ مَا أَرَادَ الْقَوْمُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَيْءٌ حِينَ رَغِبَ عَمَّا صَنَعَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَأَعْطَاهُ عَلَى مَعْنَى مَا أَعْطَاهُمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِهِ حَيْثُ رَأَى أَنْ يُعْطِيَهُ: لِأَنَّهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم خَالِصًا لِلتَّقْوِيَةِ بِالْعَطِيَّةِ وَلَا نَرَى أَنْ قَدْ وَضَعَ مِنْ شَرَفِهِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْطَى مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ النَّفْلَ وَغَيْرَ النَّفْلِ: لِأَنَّهُ لَهُ وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَلَمْ يُسْلِمْ وَلَكِنَّهُ أَعَارَهُ أَدَاةً فَقَالَ فِيهِ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ أَوَّلَ النَّهَارِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: غَلَبَتْ هَوَازِنُ وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: بِفِيكَ الْحَجَرُ، فَوَاللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَوْمُهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ كَأَنَّهُ لَا يُشَذُّ فِي إِسْلَامِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا رَأَيْتُ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ لِلِاقْتِدَاءِ بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم، (وَلَو قَالَ) قَائِلٌ: كَانَ هَذَا السَّهْمُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَ سَهْمَهُ حَيْثُ يَرَى فَقَدْ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً وَأَعْطَى مِنْ سَهْمِهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: لِأَنَّهُ مَالُهُ يَضَعُهُ حَيْثُ رَأَى وَلَا يُعْطِي أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ أَعْطَى أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَوْ قِيلَ لَيْسَ لِلْمُؤَلَّفَةِ فِي قَسْمِ الْغَنِيمَةِ سَهْمٌ مَعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ كَانَ مَذْهَبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ) وَلِلْمُؤَلَّفَةِ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ سَهْمٌ، وَالَّذِي أَحْفَظُ فِيهِ مِنْ مُتَقَدِّمِ الْخَبَرِ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَحْسَبُهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَجَاءَهُ بِزُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا، وَالَّذِي يَكَادُ يَعْرِفُ الْقَلْبُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، فَإِمَّا زَادَهُ تَرْغِيبًا فِيمَا صَنَعَ وَإِمَّا لِيَتَأَلَّفَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا يَثِقُ بِهِ مِنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، (قَالَ) فَأَرَى أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَلَنْ تَنْزِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ بِمَوْضِعٍ مُنْتَاطٍ لَا يَنَالُهُ الْجَيْشُ إِلَّا بِمُؤْنَةٍ وَيَكُونَ بِإِزَاءِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَأَعَانَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ إِمَّا بِلِيَّةٍ فَأَرَى أَنْ يَقْوَوْا بِسَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَإِمَّا أَلَّا يُقَاتِلُوا إِلَّا بِأَنْ يُعْطَوْا سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ أَوْ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْهُ، وَكَذَا إِذَا انْتَاطَ الْعَدُوُّ وَكَانُوا أَقْوَى عَلَيْهِ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ يُوَجَّهُونَ إِلَيْهِ بِبُعْدِ دِيَارِهِمْ وَثِقَلِ مُؤنَاتِهِمْ وَيَضْعُفُونَ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَمَا وَصَفْتُ مِمَّا كَانَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مِنِ امْتِنَاعِ أَكْثَرِ الْعَرَبِ بَالصَّدَقَةِ عَلَى الرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا لَمْ أَرَ أَنْ يُعْطَى أَحَدٌ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أنَّ عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيًّا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَعْطَوْا أَحَدًا تَأَلُّفًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ- فَلَهُ الْحَمْدُ- الْإِسْلَامَ عَنْ أَنْ تُتَأَلَّفَ عَلَيْهِ رِجَالٌ. (وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ) لَا يُعْطَى مُشْرِكٌ يُتَأَلَّفُ عَلَى الْإِسْلَامِ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَرْدُودَةً فِيهِمْ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ أَسْقَطَا سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَمَا أَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِلِاسْتِغْنَاءِ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِعْلَاءِ أَهْلِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 60] وَتَأَلَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ. وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مُسْلِمُونَ، وَمُشْرِكُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرْبَانِ: مُسْلِمُونَ، وَمُشْرِكُونَ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ، فِيهِمْ قُوَّةٌ وَبَأْسٌ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نِيَّاتٌ، المؤلفة قلوبهم لَكِنَّهُمْ إِنْ أُعْطُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ أَذَاهُمْ مُجْتَازِينَ أَوْ مُسَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا قَاتَلُوهُمْ وَتَتَبَّعُوهُمْ بِالْأَذَى فِي أَسْفَارِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، مِثْلَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَقَدْ كَانَ ذَا غِلْظَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ أَهْلَ بَنِي مَعُونَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأَلَّفُهُ وَيَسْتَكِفُّهُ فَأَتَى الْمَدِينَةَ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، شَارِكْنِي فِي أَمْرِكَ وَكُنْ أَنْتَ عَلَى الْمَدَرِ وَأَنَا عَلَى الْوَبَرِ، فَقَالَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِي، قَالَ: وَاللَّهِ لِأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَأَبْنَاءِ قَبِيلَةِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ- يَعْنِي الْأَنْصَارَ-، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بِأَخْبَثِ نِيَّةٍ فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ مَاتَ بِهَا وَقَدْ نَزَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ سَلُولٍ، قَالَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْكُفَّارِ أَشْرَافٌ وَمُطَاعُونَ، لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نِيَّاتٌ لَمْ تُخْلَصْ إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا، المؤلفة قلوبهم وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا بَقَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ مِثْلَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ ذَا نِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَعَارَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَدَاةً فَأَعَارَهُ مِائَةَ دِرْعٍ وَحَضَرَ مَعَهُ حُنَيْنًا، وَقَالَ: قَدِ انْهَزَمَتِ الصَّحَابَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْعَةِ أَحْسَنُ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ غَلَبَتْ هَوَازِنُ وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: لِفِيكَ الْحَجَرُ، وَاللَّهِ لَرَبُّ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبِّ هَوَازِنَ، فَلَمَّا انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ وَأُحِيزَتْ غَنَائِمُ هَوَازِنَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مِائَةَ بَعِيرٍ، فَلَمَّا رَآهَا وَقَدِ امْتَلَأَ بِهَا الْوَادِي فَقَالَ: هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ. هَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَلَّفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 160]. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَزَادَهُمْ مِنْ قُدْرَةٍ عَنْ أَنْ يتَأَلَّفُوا بِأَمْوَالِهِمْ مُشْرِكًا، وَيَكُونُ تَأَلُّفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ إِمَّا عَنْ حَاجَةٍ إِلَيْهِمْ عِنْدَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِهِ الَّذِي مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَكَانَ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ مِمَّا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوُلَاةِ أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَهُ. فَإِذَا قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَأَلَّفُوا بِمَالٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَوْلًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا مُنِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا. وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ تَأَلُّفِهِمْ جَازَ إِذَا وُجِدَ فِيهِمْ نَفْعُ التَّأَلُّفِ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لَا مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمُعَدَّةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ.

.فصل [في المسلمين من المؤلفة]:

وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَضَرْبَانِ: مقضَرْبٌ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَأَلُّفِهِمْ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَأَلُّفِهِمْ وَحَمْلِهِمْ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْأَشْرَافُ الْمُطَاعُونَ وَقَدْ حَسُنَتْ فِي الْإِسْلَامِ نِيَّاتُهُمْ، لَكِنْ فِي إِعْطَائِهِمْ تَأَلُّفٌ لِقَوْمِهِمْ وَتَرْغِيبٌ لِأَكْفَائِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ كَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُمَا تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِمَا وَتَرْغِيبًا لِنُظَرَائِهِمَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ قَدْ أَسْلَمُوا بِنِيَّاتٍ ضَعِيفَةٍ، إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ وَإِنْ مُنِعُوا رُبَّمَا أَفْضَى بِهِمْ ضَعْفُ النِّيَّةَ إِلَى الرِّدَّةِ، فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ، فَإِنَّهُ تَأَلَّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةِ بَعِيرٍ وَتَرَكَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ فَلَمْ يُعْطِهِ ثِقَةً بِحُسْنِ إِسْلَامِهِ، كَمَا تَرَكَ الْأَنْصَارَ وَقَصَرَ بِهِ عَلَى مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ حَتَّى اسْتَعْتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِيمَا أَنْشَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
كَانَتْ نَهَابًا تَلَافَيْتُهَا ** وكَرِّي عَلَى الْقَوْمِ بِالْأَجْرَعِ

وَحَثِّي الْجُنُودَ لِكَيْ يُدْلِجُوا ** إِذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعِ

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيـ ** ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ

الْأَبْيَاتِ إِلَى آخِرِهَا.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأُعْطِيَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَاحْتَمَلَ إِعْطَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لَهُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ بِهِ حُسْنَ النِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَنَعَهُ، ثُمَّ بَانَ مِنْهُ ضَعْفُ النِّيَّةِ فَتَأَلَّفَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِ، لَكِنْ خَشِيَ نَقْصَ الرُّتْبَةِ وَحَظَّ الْمَنْزِلَةِ فَأَحَبَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَكْفَائِهِ فَأَعْطَاهُ مَعَ حُسْنِ إِسْلَامِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِشِعْرِهِ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَأَلَّفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ وَفِي جَوَازِ تَأَلُّفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عُمُومِ قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 160]، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا أَتَاهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ بِثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ أَعْطَاهُ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا لِيَتَأَلَّفَ بِهَا قَوْمَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَحِقَ بِهِ فِي زُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَأَلَّفُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَنْ أَنْ يُتَأَلَّفَ فِيهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مَا تَأَلَّفُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ أَحَدًا، وَقَدْ رَوَى حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَتَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطِهِ فَقَالَ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: 29]، فَإِنْ قِيلَ: لَا يُعْطَى الْكُفَّارُ، فَلَا مَقَالَ وَإِذَا قِيلَ يُعْطَوْنَ تَأَلُّفًا لِقُلُوبِهِمْ، فَعَنِ الْمَالِ الَّذِي يُتَأَلَّفُونَ مِنْهُ الكفار قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى سَهْمِهِمْ مِنْهَا، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ مِالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَتِهَا وَيُعْطَوْنَ ذَلِكَ مَعَ الْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ.

.فصل [في الضَّرْبِ الثَّانِي مِنَ المؤلفة قلوبهم الْمُسْلِمِينَ]:

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَأَلُّفِهِمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَعْرَابٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرَفٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِإِزَاءِ مُشْرِكِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ، إِمَّا لِفَقْرِهِمْ وَإِمَّا لِضَعْفِ نِيَّتِهِمْ وَفِي مَسِيرِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَالْتِزَامُ مَالٍ جَزِيلٍ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْ ذَكَرْنَا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مُرْتَدِّينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَّا بِمَالٍ إِمَّا لِفَقْرٍ أَوْ لِضَعْفِ نِيَّةٍ وَفِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ مُؤْنَةٌ ثَقِيلَةٌ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَهَذِهِ حَالُهُمْ مَعَهُمْ. وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى بَذْلِهَا إِلَّا بِمَالٍ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ يَجُوزُ تَأَلُّفُهُمْ بِالْمَالِ لِمَا فِي تَأَلُّفِهِمْ مِنْ مَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَفْعِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَفِي الْمَالِ الَّذِي يُتَأَلَّفُونَ مِنْهُ المسلمون ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ وَرَابِعٌ مَعْلُولٌ: أَحَدُهَا: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ غُزَاةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمَعْلُولُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَسَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَعْلُولٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي دَفْعِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ سَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ؛ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ إِعْطَاءَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاحِدَةِ بِسَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ إِذَا كَانَا فِيهِ مَوْجُودَيْنِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي مَنَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْطَوْنَ إِلَّا مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي إِعْطَائِهِمْ مِنَ السَّهْمَيْنِ مَعًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ فِيهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إِعْطَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ لِمَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ إِلَيْنَا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِيمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ مَانِعِي الزَّكَاةِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِي هَذَا الْقَوْلُ الرَّابِعُ غَيْرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّهُ يُجْمَعُ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا بَيْنَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَبَيْنَ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنْ يُصْبِحَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنَ السَّهْمَيْنِ، لَكِنْ يُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ، فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ السَّهْمَيْنِ لِلْجِنْسِ الْعَامِّ وَالْمَنْعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا أَصَحُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ الرَّابِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.